الناصية ووظيفة الفص الجبهي للدماغ
دراسة إعجازية لسورة العلق
ورد في القرآن الكريم ذكر الناصية - وهي مقدمة الرأس أو الجبهة _ في آيتين من سورة العلق، وربطت الأولى منها بين الناصية والتحكم في اتخاذ القرار، في قوله تعالى: {.. لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ}(سورة العلق:15). ووصفت الآية الثانية، ذات الناصية بالكذب والخطأ في قوله تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} (العلق: 16). ووصفتها آية أخرى بأنهامكان القيادة في المخلوق الحي وبها جماع أمره كله، قال تعالي: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ( هود:56). كما أشارت إلى هذا المعنى آيات أخرى وأحاديث نبوية كريمة.
الجانب التفسيري:
وبعد مراجعة أقوال اللغويين والمفسرين لهذه النصوص ظهر لنا أنها تشير إلى الحقائق التالية:-
1- وصف ذات الناصية وصفا حقيقيا بالكذب والخطأ، فمعنى ناصية كاذبة خاطئة: أي كاذبة في قولها خاطئة في فعلها(تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبد الرحمن السعدي)، أي أن القدرة على التحكم في الأقوال بجعلها كاذبة أو صادقة والقدرة على التحكم في الأفعال بجعلها خطأ أو صواب وصف لازم من أوصاف الناصية، وهذا الوصف وإن كان واردا للناصية - التي تعنى مقدم الجبهة - إلا أنه لا يوصف بهذه الأوصاف على الحقيقة ؛ لأنه جزء عظمى من الرأس فعند التحقيق بدراسة التركيب التشريحي لمنطقة أعلى الجبهة وجد أنها تتكون من أحد عظام الجمجمة المسمى بالعظم الجبهي (frontal bone) ويستتر خلفه محميا به أحد فصوص المخ المسمى بالفص الجبهي ( Front lobe) وبهذا يمكن القول بأن الناصية كما تطلق على العظم الجبهي، يمكن أن تطلق أيضا على ما يستتر خلفه من الفص الجبهي للدماغ، حيث إنه الجزء والمكان الذي يمكن أن يوصف بهذه الأوصاف وصفا حقيقيا، ويتحقق العمل فيه بظاهر النص من غير حاجة إلى تأويل أو مجاز، وتعبير إسناد الوصف أو الفعل لشئ والمراد ما فيه تعبير شائع في القرآن الكريم، ولا أدلّ على هذا من قوله تعالى ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا وَالّعِيْرَ الّتِيَ أَقْبَلْنَا فِيهَا ) [يوسف آية 82 ] فلا يوجه السؤال إلى مباني القرية أو إلى ذوات العير، وإنما للناس داخل هذه القرية والمصاحبين منهم لهذه العير كما أن مفهوم النص في قوله تعالى: (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ) وقول النبي(صلى الله عليه وسلم) في الحديث (ناصيتي بيدك ) يؤكد هذا المعنى حيث تشير النصوص إلى أن الجزء المختص بقيادة الدواب كلها وتوجيهها- وعلى رأسها الإنسان ـ يخضع لهيمنة الله وسلطانه. وهذا الجزء لابد أن يكون في الدماغ حيث هو العضو المختص بتسيير شئون الدواب والسيطرة على تصرفاتها. وبما أن النصوص سمت هذا الجزء بالناصية فلابد أن يشمل الجزء الأمامي من الدماغ الذي يقع خلف مقدمة الرأس.
بناء على ذلك فإن مفهوم النصوص يتيح لنا أن نقول بأن الناصية بما تحوى من الفص الجبهي للدماغ هي مكان القيادة والتوجيه للسلوك والتصرفات الإنسانية.
2- حرية الاختيار متاحة للإنسان وهي مرتبطة كما يفهم من الآية بالناصية، أي بالفص الجبهي للدماغ، فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يمكن أن يتحكم في سلوكه وفق ضوابط التصرفات القولية والفعلية - من الصدق والكذب والخطأ - لذا قال ربنا سبحانه: (لئن لم ينته لنسفعن بالناصية) أي لئن لم ينته عما يقول ويفعل وينزجر، لنأخذن بناصيته أخذاً عنيفاً. وربما يشير هذا التهديد بقطع أو فصل الناصية، لأن السفع هو الجذب الشديد.
الجانب العلمي:
هذه هي الحقائق المفهومة من النصوص، فماذا قال العلم الحديث عن ناصية الإنسان والحيوان ؟ يظهر العلم الحديث عدة حقائق عن ناصية الإنسان ودماغه يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
1- دماغ الإنسان هو الأضخم: يعتبر دماغ الإنسان من وجهة النظر التشريحية، أضخم ما في مملكة الحيوان بالنسبة لوزن الجسم، لكن هناك ثلاثة حيوانات فقط تتمتع بأكبر وزن مطلق للمخ وهي: الحوت والفيل وخنزير البحر.
2- الفص الجبهي أكبر فصوص الدماغ: يتكون دماغ الإنسان من عده فصوص: الفص القذالى والجدارى والصدغى، وكما نرى في شكل (لسان العرب 15/327) فإن الفص الجبهي هو أكبرها على الإطلاق.
3- قشرة المخ هي الوزن أو الحجم الأكبر في الدماغ: يتكون حجم أو وزن دماغ الإنسان إلى حد كبير من المخ ( Cerebrum ) وعلى الأخص قشرة المخ (Cerebalcortex)، والتي يمثل الجزء الأكبر منها مناطق الربط الثلاث: منطقة الربط الجدارية الصدغية القذالية، ومنطقة الربط الصدغية، ومنطقة الربط الجبهية (شكل 1)
وتتكون النسبة الكبرى من مناطق الربط هذه من قشرة الفص الجبهي وامتدادها المباشر من قشرة المنطقة قبل الحركية ( Premotorarea)،وقشرة المنطقة الحركية الإضافية (Supplementary motor area ).
4- يمتلك الإنسان قشرة مخ شاسعة بالنسبة للحيوان، خاصة قشرة الفص الجبهي: يختلف دماغ الإنسان عن دماغ الحيوان من الناحية الشكلية، حيث تتسع مساحة قشرة المخ، وخاصة قشرة الفص الجبهي، كما يزداد حجمه، أما لدى معظم الحيوانات فيتكون الفص الجبهي إلى حد كبير من قشرة الشم، التي تعدو لدى الإنسان أن تمثل جزءاً صغيراً إذا ما قورنت بالأجزاء الكبرى من قشرة الفص الجبهي انظر الشكل 2.
5- قشرة الدماغ الحوفية التي تتحكم في الوظائف الغريزية أكبر في الحيوان منها في الإنسان: وهناك أيضا ميزة شكلية أخرى هامة تتعلق بحجم قشرة الدماغ الحوفية، والتي تتحكم في الوظائف الحركية الغريزية أو الانعكاسية، مقارنة بقشرة المخ الحديثة ( Neo Cortex ) وهذا يقدم لنا الدليل على أن التحكم في الوظائف الحركية لدى الحيوانات يكون إما انعكاسياً أو موجهاً بالغرائز، أما في الإنسان فتخضع وظائفه الحركية وتصرفاته للوعي والإدراك الموجه من قبل مساحة قشرة الدماغ الشاسعة.
6- تكوين الألفاظ المنطوقة يقع في الفص الجبهي: إن التحكم في اختيار وتكوين الكلمات استعداداً للنطق بها يظهره شكل 3، حيث تختار الألفاظ في منطقة التلفيف الزاوي ثم تكون الألفاظ أو الكلمات المنطوقة في منطقة (بروكا) في الفص الجبهي الواقعة أمام الجزء الأسفل من القشرة الحركية (Primary Motor Cortex ) التي تتحكم في الأعضاء المتعلقة بالنطق، وهذا يدل على أن مفتاح التحكم في الكلمات المنطوقة هو في الفص الجبهي، للمخ أي في الناصية، لذلك فليس كل الألفاظ التي ترد إلى الذهن تظهر على اللسان، وذلك لمرورها على مركز تكوين الكلمات في الناصية، لذا فالإنسان محاسب ومسئول عما ينطق به لسانه طالما يستطيع التحكم في اختيار الألفاظ وأعضاء النطق وعلى رأسها اللسان. وقد أشار النبي إلى هذه الحقيقة بقوله: " فأخذ بلسانه قال: كف عليك هذا........" الحديث.
7- التوجيه الإرادي للنظر في اتجاه محدد يقع في الفص الجبهي: وهناك أيضا في الفص الجبهي ما يماثل منطقة (بروكا) من تلفيف القشرة الحركية وهي منطقة تختص بتحريك العينين ومنطقة فوقها تختص بتحريك الرأس في حركة دائرية وكلا المنطقتين توجه وتركز النظر في اتجاه معين وفق حركة إرادية. وهاتان المنطقتان توجهان قشرة الحركة الأولية (Primary Motor Cortex ) لإدارة الرأس وتركيز العينين في اتجاه محدد. إذاً فالتوجيه الإرادي للنظر يقع في الفص الجبهي أو الناصية، وهذا يتوافق مع ما أشار إليه النبي في حديث المؤاخذة على النظر المحرم للمرأة حين قال لعلى رضى الله عنه: " يا على لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة "( رواه الترمذي ج 5/101 وقال حسن غريب) وفي رواية قال:" النظرة الأولى لك والآخرة عليك " (رواه الطحاوي في شرح معاني الأثار ج 3/15 وهو حديث حسن) فالأولى فجائية ليس فيها تركيز وتوجيه، وإنما تقع المؤاخذة على النظرة الثانية الإرادية المحددة والموجهة.
8- التحكم الإرادي لحركة جميع أجزاء الجسد يقع في الفص الجبهي: أثبتت الأبحاث أن المنطقة الحركية الإضافية والمنطقة قبل الحركية تعملان باعتبارهما منشئتين للوظيفة الحركية، وتخزنان برامج الحركة التي تعتبر جزءا من التخطيط الخاص بتحكم مجموعة معينة من العضلات على القيام بحركة طوعية، لذلك فإنه يمكن الاستنتاج أنه كما هو الحال فيما يتعلق بالنطق واختيار الألفاظ وتحريك الرأس والعينين ؛ فإن قشرة الفص الجبهي أو الناصية هي المختصة بالتحكم الواعي للقيام بعمل طوعي أو عدم القيام به، مما يتطلب تحريك بعض أو كل أجزاء الجسد.
9- التناسق بين حركة النطق وحركات الجسم يقع في الفص الجبهي: إن احتواء الفص الجبهي للمنطقة الحركية الإضافية والمنطقة الحركية الأولية تشير إلى التناظر ما بين منطقة (بروكا) المتعلقة بالسيطرة على النطق من جهة، ومناطق تحريك الرأس والعينين وبين المنطقة ما قبل
الحركية المتعلقة بالسيطرة على الوظائف الحركية الأخرى، تؤدى إلى التصرفات الطوعية لسائر أعضاء الجسد مما يؤكد أن التناسق بين حركة النطق والنظر وحركات الجسم المختلفة يقع في الفص الجبهي أو الناصية شكل 4.
10- قشرة المخ في الفص الجبهي تتحكم في سلوك الإنسان: ولتأكيد هذا الاستنتاج نجد أن عدم وجود معظم قشرة الفص الجبهي في الحيوانات يظهر أثره في السلوك الحيواني، فحاسة الشم تثير السلوك الجنسي مباشرة، وكذلك السلوك الغذائي والنشاط الحركي المتعلق بهذه الوظائف، أما بالنسبة للإنسان فلابد من اعتبارات ومعلومات تم تخزينها وترسيخها مسبقاً في وظائف قشرة الدماغ، خاصة في مناطق الربط، بالإضافة إلى الوظائف الحوفية الغرائزية، قبل أن يقع السلوك الجنسي أو الغذائي أو أي سلوك أخر، مع ما يتبع ذلك من القيام بأعمال حركية أخرى بالأيدي أو الأرجل أو أي أجزاء أخرى من الجسم كحركة العين للرؤية، وحركة اللسان بالنطق، وهكذا يكون الخيار بالقيام بعمل أو عدم القيام به مركوزاً في مناطق الحركة الإرادية في الفص الجبهي ذو المساحة الشاسعة من قشرة الدماغ، خاصة في مناطق الربط فيه.
11- السلوك الغريزي والسلوك المكتسب: يمكننا بعبارات تواكب عصر الحاسوب وصف السلوك الغريزى بالبرامج الداخلية التكوين التي تحركها منبهات محددة، ووصف السلوك المكتسب بالبرامج الخارجية للحاسوب.
ويتمثل السلوك الغريزي بوضوح في سلوك الحيوانات ؛ حيث تثير – كما ورد سابقاً – حاسة الشم السلوك الجنسي مباشرة وكذلك السلوك الغذائي والنشاط الحركي المتعلق بهذه الوظائف. والدليل على ذلك كبر حجم قشرة الدماغ الحوفية (Limic cortex ) مقارنة بقشرة المخ الحديثة ( New cortx ) في جميع الحيوانات السفلي حيث تمثل القشرة الحوفية الأجزاء من قشرة المخ وهذا يثبت لنا أن التحكم في الوظائف لأعضاء جسم الحيوان يكون إما انعكاسياً أو موجهاً بالغرائز إلى درجة كبيرة. هذا وقد أثبتت التجارب أن الدافع لسلوك الحيوان هو غريزي أو فطري بناء على معلومات مركوزة محددة في قشرة الدماغ الحوفية وقد تؤثر عليه بعض التجارب المكتسبة من البيئة وقد وجد بعض الباحثين أن الفئران التي تمت تنشئتها في ظلام تام منذ ولادتها استطاعت أن تتبين حجم الأشكال وبريقها بالقدر نفسه من الدقة التي ظهرت لدى فئران تم تنشئتها في ظروف طبيعية (مجلة العلوم العدد 8،9 (1995م) ص 43،44) لذلك فإن المعلومات الغريزية هي العامل الرئيسي الموجه للسلوك الحيواني.